كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الاية أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه، بأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فانظره، وقد قدمنا أن النووي ذكر أنه صح فيه حديثنا، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمختار أن صيغة الاستئذان التي لا ينبغي العدول عنها أن يقول المستأذن: السلام عليكم أأدخل؟ فإن لم يؤذن له بعد الثالثة انصرف، كما دلت عليه الأدلة.
واعلم أن الأحاديث الواردة في قصة عمر مع أبي موسى في الصحيح في سياقها تغاير لأن في بعضها: أن عمر أرسل إلى أبي موسى بعد انصرافه، فرده من حينه، وفي بعضها أنه لم يأته إلا في اليوم الثاني، وجمع بينها ابن حجر في الفتح قال: وظاهر هذين السياقين التغاير، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال إلى أن قال ويجمع بينهما: بأن عمر لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه فأرسل إليه، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني. اهز منه. والعلم عند الله تعالى.
تنبيهات تتعلق بهذه المسألة:
الأول: اعلم أن المستأذن إن تحقق أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثالثة، لأنهم لما سمعوه، ولم يأذنوا له دل ذلك على عدم الإذن، وقد بينت السنة الصحيحة عدم الزيادة على الثلاثة، خلافًا لمن قال من اهل العلم: إن له أن يزيد على الثلاث مطلقًا، وكذلك إذا يدر هل سمعوه أولا، فإنه يلزمه الانصراف بعد الثالثة، كما أوضحنا أدلته ولم يقيد شيء منها بعلمه بأنهم سمعوه.
التنبيه الثاني: اعلم أن الذي يظهر لنا رجحانه من الأدلة، أنه إن علم أن أهل البيت، لم يسمعوا استئذانه لا يزيد على الثالثة، بل ينصرف بعدها لعموم الأدلة، وعدم تقييد شيء منها بكونهم لم يسمعوه خلافًا لمن قال له الزيادة، ومن فضل في ذلك، وقال النووي في شرح مسلم: أما إذا استأذن ثلاثًا، فلم يؤذن له، وظن أنه لم يسمعه، ففيه ثلاثة مذاهب أشهرها أنه ينصرف، ولا يعيد الاستئذان. والثاني يزيد فيه، والثالث إن كان بلفظ الاستئذان المقتدم لم يعده، وإن كان بغيره أعاده. فمن قال بالأظهر فحجته قوله صلى الله عليه وسلم: «فلم يؤذن له فليرجع» ومن قال بالثاني: حمل الحديث على من علم أو ظن أنه سمعه، فلم يأذن والله أعلم.
والصواب إن شاء الله تعالى هو ما قدمنا من عدم الزيادة على الثلاث، لأنه ظاهر النصوص ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا بدليل يجب الرجوع إليه، كما هو مقرر في الأصول.
التنبيه الثالث: قال بعض أهل العلم: إن المستأذن ينبغي له ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ولكنه يقف جاعلًا الباب عن يمينه أو يساره، ويستأذن وهو كذلك، قال ابن كثير: ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه، أو يساره لما رواه أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين قالوا: حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بشر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: «السلام عليكم: السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور. انفرد به أبو داود. وقال أبو داود أيضًا: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا جرير، ح، وثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص عن الأعمش عن طلحة عن هزيل قال: جاء رجل قال عثمان: سعد، فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم، يستأذن فقام على الباب، قال عثمان: مستقبل الباب قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر» ورواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري، عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود، من حديثه انتهى من ابن كثير، والحديثان اللذان ذكرهما عن أبي داود نقلناهما من سنن أبي داود لأن نسخة ابن كثير التي عندنا فيها تحريف فيهما.
وفيما ذكرنا دلالة على ما ذكرنا من أن المستأذن لا يقف الباب خوفًا مستقبل الباب خوفًا أن يفتح له الباب، فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه، بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه أو يساره فإنه وقت فتح الباب لا يرى من في داخل البيت. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: اعلم أن المستأذن إذا قال له رب المنزل: من أنت، فلا يجوز له أن يقول له: أنا بل يفصح باسمه وكنيته إن كان مشهورًا به، لأن لفظة: أنا يعبر بها كل أحد عن نفسه فلا تحصل بها معرفة المستأذن، وقد ثبت معنى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا مطعن فيه.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابرًا رضي الله عنه يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب فقال: «من ذا؟ فقلت: أنا. فقال: أنا أنا،» كأنه كرهَهَا انتهى منه، وتكريره صلى الله عليه وسلم لفظة: أنا دليل على أنه لم يرضها من جابر، لأنها لا يعرف بها المستأذن فهي جواب له صلى الله عليه وسل، بما لا يطابق سؤاله، وظاهر الحديث أن جواب المستأذن بأنا، لا يجوز لكراهة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وعدم رضاه به خلافًا لمن قال: إنه مكروه كراهة تنزيه، وهو قول الجمهور.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شعبة عن محمد بن المنكذر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدعوت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من هذا؟ قلت أنا فخرج وهو يقول: أنا أنا».
حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، واللفظ لأبي بكر قال قال يحيى أخبرنا وقال أبو بكر: حدثنا وكيع عن شعبة، عن محمد بن المّنْكَدِرِ، عن جابر بن عبد الله قال: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من هذا؟ فقلت: أنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا انا».
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا النضر بن شُميل، وأبو عامر العَقَديُّ ح وحدثنا محمد بن المثنى، حدثني وهب بن جرير ح وحدثني عبد الرحمن بن بشر، حدثنا بّهرٌ كُلُّهُمْ عن شبعة بهذا الإسناد، وفي حديثهم كأنه كره ذلك. انتهى. منه، وقول جابر، كأنه كره ذلك فيه أنه لا يخفى من تكريره صلى الله عليه وسلم لفظة أنا أنه كره ذلك ولم يرضه، وحديث جابر هذا أخرجه غير الشيخين من باقي الجماعة.
المسألة الرابعة: اعلم أن الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته وبنيه وبناته البالغين، لأنه إن دخل على من ذكر يغير استئذن فقد تقع عينه على عورات من ذكر، وذلك لا يحل له.
وقال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» ما نصه: ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم، لئلا تكون منكشفة العورة: وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع: كان ابن عمر، إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن. ومن طريق علقمة: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: استأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تريد أن تراها. ومن طريق مسلم بن نذير بالنون مصغرًا: سأل رجل حذيفة: أستأذن على أمي؟ فقال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره. ومن طريق موسى بن طلحة، دخلت مع أبي على أمي فدخل، واتبعته فدفع في صدري وقال: أتدخل بغير إذن؟ ومن طريق عطاء سألت ابن عباس أستأذن على أختي؟ قال نعم، قلت إنها في حجري؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة. انتهى من فتح الباري.
هذه الآثار عن هؤلاء الصحاية تؤيد ما ذكرنا من الاستذان على من ذكرنا، ويفهم من الحديث الصحيح: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» فوقوع البصر على عورات من ذكر لا يحل كما ترى، وقال ابن كثير رحمه لله في تفسيره للآية التي نحن بصددها: وقال هشيم أخبرنا أشعت بن سوار، عن كردوس، عن ابن مسعود قال: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم، وقال أشعث، عن عدي بن ثابت: أن امرأة من الانصار قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهل بيتي، وأنا على تلك الحال: فنزلت: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا} [النور: 27] الآية، وق ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثلاث آيات جحدهن الناس: قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] قال يقولون: إن أكرمكم عند الله أعظمكم بيتًا إلى أن قال: والأدب كله قد جحده الناس قال: قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال نعم، فرددت عليه ليرخص لي فأبى فقال تحب أن تراها عريانه، قلت لا قال فاستأذن، قال: فراجعته فقال: أتحب أن تطيع الله.
قال: قلت نعم، قال فاستأذن، قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إلى أن أرى عورتها من ذات محرم، قال: وكان يشدد في ذلك، وقال ابن جريج عن الزهري سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم. اه محل الغرض منه، وهو يدل على ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: اعلم أنه إن لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته أن الأظهر أنه لا يستأذن عليها، وذلك يفهم من ظاهر قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} ولأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته، ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما، ولو كان أبًا أو أمًا أو ابنًا كما لا يخفى، ويدل له الأثر الذي ذكرناه آنفًا عن موسى بن طلحة: أنه دخل مع أبيه طلحة على أمه فزجره طلحة عن أن يدخل على أمه بغير إذن، مع أن طلحة زوجها دخل بغير إذن.
وقال ابن كثير في تفسيره: وقل ابن جريج قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال لا، ثم قال ابن كثير: وهذا محمول على عدم الوجوب وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به، لأحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. ثم نقل ابن كثير عن ابن جرير بسنده عن زينب امرأة ابن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه قال: وإسناده صحيح اه محل الغرض منه. والأول أظهر ولاسيما عند من يرى إباحة نظر إلى فرح امرأته كمالك وأصحابه ومن وافقهم. والعلم عند الله تعالى.
المسألة السادسة: إذا قال أهل المنزل للمستأذن: ارجع وجب غليه الرجوع لقوله تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ} [النور: 28] وكان بعض أهل العلم يتمنى إذا استأذن على بعض أصدقائه أن يقولوا له: ارجع ليرجع، فيحصل له فضل الرجوع المذكور في قوله: {هُوَ أزكى لَكُم} [النور: 28] لأن ما قال الله إنه أزكى لنا لا شك أن لنا فيه خيرًا وأجرًا. والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة: أعلم أن أقوى الأقوال دليلًا وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم ففقأوا عينه التي نظر إليهم بها، ليطلع على عوراتهم أنه لا حرج عليهم في ذلك من إثم ولا غرم دية العين ولا قصاص، وهذا لا ينبغي العدول عنه لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا مطعن فيه، ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم لسقوطها عندنا، لمعارضتها النص الثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا ديه له، ثم ذكر من أحاديث هذه الترجمة: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفْتَهُ بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح» اه منه، والحجاج الحرج. وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «لم يكن عليك جناح» لفظ جناح فيه نكرة في سياق النفي تعم رفع كل حرج من إثم ودية وقصاص كما ترى.